حضارة عَفِنَة

crbst_Sans_20titre_201

حين يقف السائح لينظر الى معابد الامبراطورية الرومانية والبنايات التي بقيت صامدة منذ قرون ويلتقط الصور مبتسما بكل وقاحة تعلم أن هناك خطبا ما .. لقد نسي أن تلك الصروح شيدت على أيدي العبيد بينما هم يتلقون الضربات بالسياط وبينما يتم تجريدهم من انسانيتهم .. ولكنه جالس هناك مفتخرا بابنته الصغيرة التي نجحت لأول مرة في التقاط صورة لأمها. ويمازح زوجته قائلا: وأخيرا وجدنا من يلتقط صورة لنا دون أن نزعج المارة. ثم يمضي.
هو لا يدري أن أنينهم لا زال يسمع .. ولا يدري أنه يطأ دمائهم ..
ينظر آخر باندهاش واعجاب لعلو الأهرام في مصر متسائلا عن الطريقة التي استعملت في بنائها .. هو لا يدري أنه ومن ذلك العلو ألقى زبانية الأسياد عبدا فقط لأنه شعر بالعياء ولم يستطع الوقوف على قدميه ..
أطنان الشوكولاتة التي يستهلكها الأغنياء سنويا ويزينون بها موائدهم ويسكتون بها بكاء أبنائهم .. لا يعلمون أنها تصنع بالكاكاو الذي ينبت في بعض الدول الافريقية التي اغتصبت في سبيل بناء الحضارة ..
حين يكون سبب القضاء على الأحياء الفقيرة هو لأنها ستشوه المكان بعد أن يتم بناء ملعب أو مركز تجاري بمواصفات عالمية وليس لأننا نريد تحسين حياة الناس، تعلم أن هناك خطبا ما ..
هذه لا تعتبر سوى أمثلة قليلة جدا لهذه “الحضارة” التي نتغنى بها الآن ونفتخر بها، وكل هذا العفن المنتن الذي غرقنا فيه راجع للايمان بالمادة وفقط المادة، وبقانون القوي يأكل الضعيف والميكيافيلية الداعرة… كل ذلك يحصل حين تلغي الجانب الروحي الذي يكمل الجانب المادي .. كل ذلك يحصل حين لا تخاف الله ..!

قياسي

مراجعة لرواية عائد الى حيفا – غسّان كَنَفاني

Deheishe 3

عائد الى حيفا .. قرأت أول فصلين منذ مدة طويلة، لكنني ظللت أتجاهلها دون أي سبب. كانت ترافقني أينما ذهبت وكان لها مكان خاص في محفظتي الى جانب الكتب الدراسية، فقد كانت تعطيني شعورا غريبا بالأمان!
استخرجتها اليوم من محفظتي، قطعت اتصالي بالعالم الخارجي وشرعت في التهام الصفحات الواحدة تلو الأخرى، وكان لطي كل صفحة شعور بأن أحدا ما يصفعني على وجهي بكل ما أوتي من قوة.
كل فصول الرواية تعتبر تمهيدا للحوار الصادم الذي سيجري بين سعيد وابنه خلدون أو (دوف كما سمياه والداه اليهوديان بعد تبنيه) الذي تخلى عنه بعد اجلاء الفلسطينيين من حيفا ..
الخطأ الذي ارتكبه سعيد وزوجته صفية ــ وهو الخطأ الذي نرتكبه نحن الآن ــ أنهما عاشا طوال عشرين سنة وهم غارقون في الماضي، وهذا ما جسده رد فعلهما حين عادا لبيتهما أول مرة بعد هذه المدة كيف أحدثت فيهما التفاصيل التافهة كشوارع المدينة، ريشات الطاووس ولون الستائر وخربشات قلم الرصاص في الباب… حزنا عميقا وكيف ألهتهم وشغلت تفكيرهم عوض التفكير في طريق للعودة !
فقد استنتجا بعد فوات الأوان أن الوطن هو المستقبل، فالدموع التي تجري على الخدود مجرى السيول حزنا، والمداد الذي يُسَالُ من أجل كتابة قصائد رثائا، … انما هو فعل يقوم به الجبناء. فالدموع لا تسترد الأراضي المغتصبة ولا الأحباب الذي قضوا نحبهم.
ومن أكثر ما أعجبني هو ما قاله في النهاية للبولونية التي سكنت منزلهما بكل ثقة بعد أن فهم كل شيء: “تستطيعان البقاء مؤقتا في بيتنا، فذلك يحتاج تسويته الى حرب”

قياسي

يُعبَد بالعلم ولا يُعبَد بالجهل

ما ستقرأه الآن هو أول تدوينة أنشرها في عام 2015 بعد غياب دام لأكثر من شهر بسبب انشغالاتي الدراسية وبسبب الامتحانات. نسأل الله أن تكون فاتحة خير :))
انتشر في الأيام الأخيرة بحث لعالمين فيزيائين أحدهما مصري ينفي حدوث الانفجار العظيم ودعموا كلامهم هذا بالعديد من الأدلة والنتائج التي توصلوا اليها بعد بحث مُضْنٍ. وكما قرأت ردود أفعال العديد من المهتمين بهذا المجال، فاكتشاف كهذا قد يغير مفاهيم علم الفيزياء ويقلبها رأسا على عقب.
في أوقات كهذه، يقتنص الماديون هذه الفرص محاولين زلزلة عقيدة المؤمنين. “الدين ثابت والعلم متغير، فالعلم يتعارض مع الدين” هذا هو جوابهم عن كل سؤال كيف ما كان وفي أي نقاش كيف ما كان نوعه سيأتي أحدهم لينسخ لك هذه العبارة وهو فخور بنفسه لأنه قام بفك الشيفرة المعقدة وحل كل الألغاز التي تحيط بنا وأجاب عن جميع الأسئلة التي تنهال على رؤوسنا من كل حدب وصوب لتقض مضاجعنا …
يقول الخالق: “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير”
من أهم الأشياء التي تحسب للاسلام أنه قام بتحرير العقل، فالقرآن مليء بآيات تحض على التفكر والتدبر والبحث عن الله. فكما يقال: الله يُعبَد بالعلم ولا يُعبَد بالجهل. وما هذه الآية الا مثال شاهد على ما أقول.
كما أنها تعتبر دليلا قويا على أن القرآن كتاب سماوي، فلا يمكن لأي شخص مهما بلغ ذكاؤه ونبوغه من عظمة أن يدعوك للبحث في أسباب نشأة هذا الكون الذي يعتبر من أهم الألغاز التي يلف حولها الغموض.
حينما أستمع لعلماء كبار في مجال الفيزياء يقولون أن عددا كبيرا جدا من القوى التي تسبح في هذا الكون العظيم لا يستطيعون تحديدها ولا قياسها وتسشعر من نبرة صوتهم انهزامهم وضعفهم لا يزيدني هذا الا ايمانا وتقديرا لعظمة الله .. لذلك ترى الله يؤكد في مواضع كثيرة على ضرورة البحث والتدبر والتفكر، لتجده منتظرا اياك في آخر الرحلة، قائلا: “انما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ”
في الاسلام العلم لا يتعارض مع الدين، أبدا. في الاسلام العلم يؤدي الى الدين ..

قياسي

اليوم العالمي للغة العربية !

شاءت الأقدار أن يصادف اليوم العالمي للغة العربية قراءتي لكتاب “تراثنا الفكري” الذي كان خير الصديق وخير الصاحب في الأيام الأخيرة للامام العظيم محمد الغزالي، وتحديدا الفصل الأخير منه المخصص للحديث عن لغة الضاد.
الغزالي تكلم عن الغزو الثقافي الذي اعتبره امتدادا للحملات الصليبية في القرون الماضية، لكنه أشد خطرا لأنه يهدف لمحو شخصيتنا وذلك بالاجهاز على اللغة والدين !
فالأمة التي تفقد لغتها كالفتاة التي تفقد عرضها وشرفها فتصير عالة على المجتمع…
وأشار الى استعانة مصر آنذاك بالعديد من المستشرقين الألمان والانجليز الذين تم تعيينهم على رأس العديد من المؤسسات الثقافية والذين كانوا أول من نادى لاعتماد اللغة العامية وألفوا كتبا عن هذا الهراء. وقد وصلت الينا هذه الروائح الكريهة بعد أن حملتها الرياح من أرض الكنانة وطالب أحدهم بتعليم الأطفال في المغرب بالدارجة عوض العربية … لكن سرعان ما تراجعت وتيرة انتشار مثل هذه الأطروحات في بلادنا التي تعتبر رمزا من رموز الانحطاط. (حفظ الله هذا الوطن من مكر هؤلاء)
قبل أكثر من قرن وتحديدا عام 1903، نشر الشاعر المصري حافظ ابراهيم قصيدة تنبأ فيها بكل هذه الويلات المعاشة في زماننا ويدعو هذه الشعوب النائمة الى الاتيان فقط باسماء لاختراعات الغرب نتداولها بيننا عوض اللجوء الى أسمائها الأصلية بالفرنسية أو الانجليزية، وكأنه علم جيدا أننا سنبدأ من هناك وننتهي الى التكلم بلغات أجنبية كما يفعل بعض “المثقفين والفنانين” حين تتم استضافتهم في الاعلام، ليقول الشيخ الهرم الذي يحاول أن يستبين اللغة التي يتكلمها هؤلاء القوم الى حفيده وهما يشاهدان التلفاز: تعلم الفرنسية حتى تصير مثقفا .. تماما كتلك الممثلة وكذلك الصحفي !
أترككم مع الأبيات
رَمَوْني بعُقْم في الشباب وليتني ** عقمتُ فلم أجزع لقول عداتي
وَلَدتُ، ولما لم أجد لعرائسي ** رجالاً وأكفاء وَأَدْتُ بناتي
وَسِعتُ كتاب الله لفظا وغايةً ** وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ ** وتنسيق أسماء لمخترعات؟
فيا وَيْحَكم أَبْلَى وَتَبْلَى محاسني ** ومنكم وان عزّ الدواء أُساتي
أرى لرجال الغرب عِزًّا ومَنْعةً ** وكم عزّ أقوام بعِزِّ لغات
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنُّنا ** فياليتكم تأتون بالكلمات !
أرى كل يوم بالجرائد مَزْلَقًا ** من القبر يدنيني بغير أناة
أيهجرني قومي عفا الله عنهمُ ** الى لغة لم تتصل برواة؟
سَرَتْ لوثة الافرنج فيها كما سرى ** لعاب الأفاعي في مسيل فُرات
فجاءت كثوب ضمّ سبعين رقعة ** مُشَكَّلَةَ الألوان مختلفات
الى معشر الكتاب والجمع حافل ** بسطتُ رجائي بعد بسط شَكاتي
فإما الحياة تبعث الميْت في البِلَى ** وتُنبت في تلك الرُّموس رُفاتي
واما ممات لا قيامة بعده ** مماتٌ لَعَمْرِي لم يُقَس بممات
لله الأمر من قبل ومن بعد …

قياسي

وا لمزوّق من برّا، آش خبارك من الداخل

الناظر والمتأمل في أحوالنا يتعجب أشد التعجب، ويحير أشد الحيرة حين يلاحظ كيف يتحرش أحمق بحمقاء، وكيف يجلس بعض كبار السن يغتابون بعضهم البعض، وكيف يغش البائع المتجول زبونه على حين غفلة من هذا الأخير، وكيف يتشاجر اثنان ويرفعان أصواتهما ويتقاذفان بالسب والشتم… كل هذا يجري في شارع يوجد به مسجد !
حين تدخل أي مسجد، تبهرك الصوامع العالية والزخرفات والفسيفاء الجميلة وكل تلك الألوان البراقة والآيات القرآنية المختارة بعناية التي رُسِمَت باتقان عظيم لتزين جنبات بيوت الله. لكن ما فائدة هذه المساجد وفي ماذا نفعتنا وقد استحللنا أعراض بعضنا البعض .. وقد صرنا ننهش لحوم بعضنا البعض؟ ما فائدتها ما دام الداخل للمسجد كالخارج منه، لم يتغير فيه شيء ! ما فائدتها ما دامت الرياح تصفر في الخواء الروحي الموجود فينا؟
كثر القيل والقال عن أحد الفيديوهات التي نشرها الياس الخريسي المعروف باسم “الشيخ سار” (والذي اعتذر عنه مؤخرا) وللأمانة أحيي شجاعته ويعجبني كيف يدافع عن آرائه وأفكاره بكل شراسة، لكن عليه اعادة النظر في طريقة عرض وجهات نظره والتي يغلب عليها طابع استفزاز الخصوم وهو أمر لن يزيد نار الخلاف الا اشتعالا !
أشخاص بِمَلَكَاتِ “الشيخ سار” هم بمثابة ثروة .. نعم ثروة يجب أن نعرف جيدا كيف نستغلها ونوجهها. ففي غياب أي تأطير للشباب بالمساجد يمكن أن ننتظر في أي لحظة بروز أشخاص فهموا الدين بالمقلوب ليفتوا ويتكلموا في أمور العامة دون أن تكون لهم خلفية علمية جيدة وتكوين خاص يمكنهم من عرض ما لديهم “بالحكمة والموعظة الحسنة”.
أول المساجد التي بنيت في تاريخ الاسلام كانت بدائية جدا .. لم تتسم بالترف والبذخ بل اكتفت بما هو ضروري، ليتخرج منها الصحابة ومن تبعهم الذين كانوا خير من وطأت أقدامهم الأرض .. كانوا عبارة عن صوامع شامخة تمشي بكل فخر واعتزاز، وكانت قلوبهم مزينة بحب الخير ونبذ الحقد والكراهية. وهذا هو المعنى والهدف الأسمى المنشود !
لا ننكر أن البنيان والعمران من المكونات الأساسية التي تساهم في بناء الحضارات وتضفي عليها نكهة خاصة، لكن ليس على حساب القيم والأخلاق.

قياسي

حلمي يعيشه آخر

يستيقظ كل صباح على أصوات السب والشتم التي يكيلها له والده، “هاداك الڭنطوح مازال ناعس؟” “يخرج برا يشوف شي خدمة ولا يدرڭ عليا زلافتو” “واش شلاغمو نعمر بيهم السدادر وباقي أنا نخدم عليه .. !؟” وغيرها من أنواع الاهانات التي تتردد على أسماعه يوميا وأمه الحنون تحاول أن تهدئ من روع زوجها وأن تلطف الأجواء “ايوا راه هاداك النهار فوت الكونكور راه قريب يردو عليه” … هو لا يتأثر بذلك أبدا، ولا يعير لهذا الكلام أي اهتمام، فقد اعتاد على هذه الأجواء المتوترة في بيته، يغسل وجهه ثم ينظر الى نفسه في المرآة للحظات ثم يذهب ليرتشف كأسا من الشاي الذي أعدته له والدته مع القليل من الخبز وزيت الزيتون.
ثم ينطلق كعادته بحثا عن عمل بعدما أفنى ربيع عمره في الغوص في بحار الكتب و”البوليكوبات”، وبعدما اختبر كل أنواع التوتر العصبي والذهني أثناء الاعداد للامتحانات، وبعدما فهم معنى أن تكون طالبا في مؤسسة جامعية في المغرب. فقد يئس من سخرية المجتمع، ومن كلام الناس الجارح…. لذلك فهو يريد عملا يناسب التضحيات التي قام بها، يريد عملا يكافئ به نفسه وليفتخر به أولاده مستقبلا، يريد عملا في المكان الذي يشعر أنه يناسب طموحاته ورغبته في تقديم الاضافة .. باختصار يريد عملا …
تعب من ملاحقة أحلامه التي أنهكت قواه، فقرر أن يستريح على أحد الكراسي. واذا بهذه السيارة تمر بجانبه، نظرا اليها وهو يتذكر حينما كان صغيرا كيف كان يتصور مستقبلا أفضل، مستقبلا منسوجا بخيوط من أمل وتفاؤل، مستقبلا يكون فيه سائقا لهذه السيارة ..

قياسي

الشرفاء

عصر كل يوم يأتي رجل يركب دراجة نارية مهترئة أكل منها الدهر وشرب، أشعث أغبر، يرتدي ثيابا متسخة يبدو أنها ثياب عمله. يفترش الأرض ويجلس القرفصاء زهاء الساعة أو الساعتين يتأمل في القاصي والدّاني، يمضي هذا الوقت كله منتظرا خروج ابنته من المدرسة.
تمر الدقائق ويبدأ موكب الزمان في الانسحاب، ولا زال هناك وفياً مخلصاً متحدياً الكلل والملل منتظراً حتى يدق جرس المدرسة معلناً نهاية الانتظار. يقف وينفض عنه الغبار، ويشرئب بعنقه محاولا تمييز ابنته بين عشرات الأطفال. يراها من بعيد .. تعلو محياه ابتسامة فخر وشوق لفلذة كبده التي يعقد عليها آمالا كبيرة أن تنجح في شيء ربما قد فشل فيه هو في وقت من الأوقات.
يعانقها ويسألها عن يومها بينما يستعدان لركوب الدراجة قصد الوصول الى المنزل، لتكرر القصة وأحداثها في اليوم الموالي.
هؤلاء هم شرفاء وطني …
الله يسمحلنا من الواليدين

قياسي

الحب من أول نظرة 7: فراق ولقاء

اقتنيا بيتا جميلا وسيارة فخمة، تذوقا طعم الحياة أخيرا بعد معاناة دامت طويلا، وأنسا ببعضهما البعض ووجدا في تلك العشرة من الغبطة والسرور ما ذهب بتلك الغضاضة بعيدا. لأن كل واحد منهما وجد في الآخر كل ما يبحث عنه، لم تحلى الحياة لأحدهما الا بالعيش بجوار الآخر.
عاشا عيشا ناعما لا تلبد سمائه غيمة، وكانا ينتظران أيام العطل بفارغ الصبر ليحظيا ببعض الوقت لهما فقط بعيدا عن ضغط العمل وضوضاء المدينة، وكانا يقضيانها تارة مستلقيان على بساط العشب الأخضر في احدى الحدائق يداعبهما نسيم عليل حمل لهما من أطيب روائح المسك مستمتعان بالنظر الى تلك الأشجار التي تتمايل بفعل هبوب الرياح يمينا ويسارا كأنها تهمس في آذان بعضها ..
وتارة يتجهان صوب أحد الشواطئ القريبة، فيمضيان اليوم كله يتأملان كيف يلتصق البحر بجلدة السماء في الأفق البعيد الواسع، ويسحرهما ذلك اللون المبهر حين تلقي الشمس بنفسها معلنة عن انقضاء يوم آخر من أيامهما معا ثم يلاحظان كيف استحال لون البحر من أزرق مستمد من زرقة السماء الصافية الى أسود .. تماما كالسماء. هذا المنظر كان يعني لهما الكثير، كأن البحر متيم بالسماء، ليس لزرقتها أو سوادها .. لكن لأنها سماء !
شعرت فاطمة مرة ببعض الآلام فاصطحبها زوجها الى الطبيب وانتظرها خارجا، بعد خروجها عادت اليه وركبت السيارة .. وقبل أن يسألها عن الخطب الذي ألمّ بها، سبقته وقالت له أنها حامل !
شعر في تلك اللحظة بفرحة لم يختبر مثلها قط .. وكان جوابه قطرات منهمرة على خديه وارتمى في حضنها وقبّل رأسها ويديها. لقد كانت تعني له فاطمة الدنيا وما فيها، أما الآن وسيزرق بمولود منها .. كان شيئا يفوق ما تخيله وما حلم به.
انقضت الشهور التسعة، وجاءت اللحظة المنتظرة. استقلا السيارة، ورافقهما في تلك الرحلة القصيرة أفراد عائلتيهما، عم الفرح والسرور الكل، وشرعا يتصلان بمعارفهم فاليوم سيصير الأب جدا والأم جدة !
وصلا، ساعد أحمد زوجته على النزول .. ثم جاءت احدى الممرضات لتقودها الى الغرفة التي ستكون شاهدة على خروج مولود جديد يملأ حياتهما صخبا وفرحا. حين بلغا الباب أخبرته الممرضة أنه لا يسمح له بالدخول هناك، حاول اقناعها بشتى الوسائل لتسمح له لكنها أبت. حزن لذلك، ثم نظر مباشرة في عيني فاطمة التي كانت تتلوى من الألم، قبلها على جبينها ومسك يدها وظل ينظر اليها حتى أغلقت الممرضة الباب.
ظل ينتظر خارجا، كان يفكر كيف ستتغير حياته، وكيف ارتبطت الأشياء الجميلة بحياته منذ ارتباطه بفاطمة .. كان يبتسم وسرعان ما يتذكر ذلك الوجه الشاحب حين ودعها بسبب الآلام الشديدة، فتنقلب الابتسامة والفرحة قلقا ..
مرت أكثر من ثلاث ساعات، وبين الحين والآخر كانت تخرج الممرضة لتطمئنه .. لكن انقضت أكثر من ساعتين منذ آخر ظهور لها .. اعتقد أن الأمر عادي لأن هذه أول مرة يعيش هذه اللحظات، لكن لما لاحظ عدم الارتياح باديا على وجوه أفراد العائلة، بدأت الشكوك تساوره وكان يسأل ويصرخ في وجه العاملين هناك دون أن يحصل على جواب شافي .. حينئذ بدأ يفقد صوابه.
ثم خرجت الممرضة حاملة بين يديها مَلَكاً وبدت مترددة للغاية، قالت له: “مبروك، لقد رزقت بولد” وناولته ابنه .. ثم أكملت: “لكن زوجتك عانت من نزيف حاد لم نستطع السيطرة عليه .. ففارقت الحياة”. لم يستوعب ما حصل للتو، ظل جامدا مصفرا، ووجهه يتصبب عرقا .. لا يمكن أن يحدث هذا، لا بد أن هناك خطئا ما .. سلّم الوليد لأمه، ثم اتجه مسرعا صوب تلك الغرفة ليلقى زوجته ويبارك لها .. فمنعه الأطباء ورجال الأمن، قال أحدهم: “احترم الموت أيها الشاب” آنذاك تيقن، فخارت قواه، وطلب منهم أن يسمحوا له بدقيقة معها فوافقوا مرغمين .. رفع الغطاء عن وجهها، بدت كالشبح .. هاله المنظر فلم يسبق له أن علم معنى الموت حتى الآن .. قبل رأسها وتذكر كيف قبلها في نفس المكان منذ ساعات قبل ولوجها هذه الغرفة اللعينة .. بكى، لم تعد هنا من تمسح دموعه بيديها الرقيقتين .. فجاء بعض العاملين وأخرجوه بالقوة لأنه ظل مستمسكا بها.
مشى في تشييع جنازتها، انتظر حتى غادر الجميع فبكى حتى جفّت عينه وابتلت تربة قبرها ثم قال: الوداع يا عقيلة النساء، ويا أبرّ الأزواج، ويا أشرف أهل الأرض وأطهر روح في السماء.. نتلقي في الجنان .. ثم نهض.
منذ موتها، لم يحرك كرسيا ولا منضدة ولا كأسا في البيت عن مكانه، كما بقيت خزانتها مفتوحة بسبب استعجالها الذهاب للطبيب تركها مفتوحة .. وكما بقي الكأس الذي ارتشفت منه قهوتها الصباحية الاعتيادية موضوعا فوق احدى الطاولات تركه هناك، وكما بقي ذلك الكتاب الذي كانت تقرؤه فوق السرير تركه في مكانه .. لقد كان وفاءً منقطع النظير.
لم يتزوج عليها رغم كونه حلم كل امرأة سمعت قصته .. ربى ابنه بمساعدة أمه وأم فاطمة، وكان يحكي له بفخر قصة حبه مع أمه التي غيبها الله في التراب.
مر الوقت بسرعة، فصار شيخا هرما لا يقوى على الوقوف .. وكان يجتمع حوله أحفاده ويحدثهم عن جدتهم، وكلما ذكر اسمها كانت تلمع عيناه رغم مرور عشرات الأعوام على الفراق ..
اشتد عليه المرض، لما اقتربت ساعته وأحس أن لحظة الرحيل قد حانت .. شاهد كل من تجمهر حوله تلك الابتسامة التي علت محياه .. تمتم بكلمات غير مفهومة، فهم الجميع أنها ربما لغة تتواصل بها الأرواح فيما بينها، وقد جاءت فاطمة تستقبله في ذلك العالم حيث الخلود ولا موت يفرقهما بعد الآن .. ففاضت روحه.
(النهاية)

قياسي

الحب من أول نظرة 6: أزواجا لتسكنوا اليها

استيقظ على وقع صوت ملائكي يهمس في أذنيه، واستشعر تلك اليد التي كانت تمسح على رأسه برفق .. فتح عينيه فاذا هي فاطمة.
حين لاحظت أنه بدأ يستفيق، نادت أمها وطلبت منها أن تحضر له كوب الحليب الدافئ الذي أعدته له. ثم نظرت اليه مبتسمة وقالت له بصوتها الشجي الذي دغدغ أعماقه: “نعم، أنا أقبل”
لم يصدق ما رأته عيناه وما سمعته أذناه للتو، ظن لوهلة أنه يحلم أو يهذي .. لكن حين أتت أمها بكأس الحليب الدافئ، ساعدته على الجلوس وناولته الكأس انتفض مذهولا وظل مشدوها لبعض الوقت، لحد الآن لم يصدق !
سألها: هل هذا حلم؟
ارتسمت على وجهها ابتسامة بوسعها طرد كل البؤس والحزن من هذا العالم، وقبل أن تجيبه عرف أن ما يراه حقيقة. فابتسم هو الآخر، وماهي الا لحظات حتى فاضت عيناه بالدمع .. لم يشاء أن تراه فاطمة باكيا بكاء الأطفال، لكنها كانت لحظة ضعف لم يستطع فيها أن يتمالك نفسه، فقد جرت الدموع على خده مجرى السيول الجارفة وكأنه يرى كل ذلك الشقاء وذلك الانتظار المؤلم طوال السنوات الماضية يُطرَد بعيدا.
بكت فاطمة لبكائه، فرغم عدم تفوهه بأي كلمة فانها علمت سر هذه الدموع العفوية الصادقة، وعلمت مكانتها الجليلة في قلبه وازداد يقينها أنها اختارت الشخص المناسب لتركب معه سفينة الحياة لترسو بهما الى بر الأمان وليخلدا معا في جنان تجري من تحتها الأنهار.
مر حفل الزفاف على مايرام. لم يتسم بالبذخ والتبذير والاسراف في الانفاق على التفاهات، فقد كان حفلا متواضعا جدا، واقتصر الحضور فيه على الأشخاص المهمين في حياة كل منهما.
عاشا بعد ذلك في بيت متواضع كذلك، ولم يجدا صعوبة في التأقلم مع الوضع الجديد لأن زواجهما كان مبنيا على الحب والرفق والاهتمام بالآخر. فقد شربا من كأس السعادة حتى الثمالة !
لم يُرى أحمد بعد ذلك الا مبتسما، رغم قساوة ظروف العيش والعمل الا أنه كان يعيش الحلم. حين يعود في المساء الى البيت منهك القوى ويرى فاطمة في استقباله يتغير كل شيء، كانت قواه يعاد شحنها بشكل تلقائي. فيجالسها ويحدثها عن يومه وتحدثه عن يومها، يحكي لها كيف اشتاق اليها والى تلك الطاقة الايجابية التي كانت تنبعث من روحها الطاهرة ويستمدها منها ..
وصل ساعي البريد مرة الى المنزل حاملا معه رسالة الى أحمد، لم يكن هناك فتسلمتها زوجته نيابة عنه. عاد بعد الغروب كالعادة، دخل البيت ووقع بصره على تلك الرسالة التي وضعتها زوجته فوق المنضدة. فتحها، فصرخ صرخة اهتزت لها أركان البيت. ركضت فاطمة نحوه وقلبها يكاد يطير من مكانه لتستفسر، لما رآها ضمّها الى صدره ضمّة لو مات على اثرها ما بكى على شيء من نعيم الدنيا وهنائها. وهي لا زالت مذهولة ولا تعلم ما الذي يجري. سألته، فقال لها وهو يطير من الفرحة أنه تم تعيينه أستاذا في احدى الثانويات. فرحت له كثيرا وهنأته، حين هدأت الأمور تأمل في وجهها طويلا ثم طلب منها الجلوس، أمضى الليل كله يحدثها عن كل تفاصيل حياته منذ رآها أول مرة في الجامعة، كيف تغيرت حياته من حسنٍ الى أحسن رغم معاناته الطويلة .. ترقرق الدمع في عينيه وهو يحكي لها كل شيء .. تأثرت كثيرا بتلك القصة فذرفت عيناها الدموع محافظة على ابتسامتها المعهودة .. كان منظرا لا يقدر بأي ثمن.
مسحت دموع زوجها برفق، وقالت له بذلك الصوت العذب: لا شقاء بعد اليوم يا أحمد. كان لهذه الكلمات مفعول السحر عليه، قال لها في لحظة اندهاش: أعيش معك في نعمة لو علمها الملوك لقاتلوني عليها ! ثم نأى عنها وسجد سجدة شكر لم يسجد مثلها من قبل .. لأنها كانت سجدة صادقة في لحظة صادقة نابعة من قلب صادق.
آنذاك أرسلت شمس الصباح أولى خيوطها التي اخترقت السقف عبر أحد الشقوق معلنة بداية فصل جديد من حياة هذين الزوجين، على ايقاع أصوات العصافير التي بدت كأنها تغني وترقص لهما .. احتضنا بعضهما البعض ثم ناما ملئ الجفون عن شواردها.
(يتبع)

قياسي

الحب من أول نظرة 5: أمل وتفاؤل

لم يستطع النوم تلك الليلة، وكأنه يرى حلمه يتبدد تماما كالسراب. حين بزغ الفجر نهض ولبس أفخم ثيابه وانطلق قاصدا بيت فاطمة ممنيا النفس أن يكلمها ويجعلها تختاره هو.
حين وصل، مكث ينتظر تحت ظل أحد الأشجار خروجها أو أمها أو أي فرد من عائلتها، كان الوقت لا زال مبكرا .. مضى بعض الوقت، ثم بدأت الحياة تدب في المدينة. الأطفال يذهبون للمدارس، والتجار يفتحون المحلات، السيارات والحافلات والدراجات عمّت المكان .. وهو لا زال هناك مرابطا منتظرا متأملا القاصي والدّاني.
بدأ موكب الزمان بالانسحاب لكن باب المنزل لم يفتح .. كما شهد في الصباح الباكر تفتح زهرة الحياة المتألقة التي بعثت رائحتها الزكية في الأرجاء، شهدها مساءً وهي تُغلق .. بقي وحده جالسا في ذلك الحي الذي هجره الناس ليلا ليأووا الى أحبائهم، كان يمني النفس أن يفعل مثلهم .. لكن من استئثرت بقلبه لم تظهر ولم تقبل به حتى يأوي ويسكن اليها هو الآخر.
حين شعر أن الوقت تأخر وأنها لن تظهر ـــ على الأقل هذه الليلة ـــ رجع الى بيته يجر أذيال الخيبة، وبدأ يشعر بالجوع .. لم يدرك أنه قضى يوما بأكمله دون أن تدخل جوفه لقمة ! يبدو أن تلك العزيمة على لقاء فاطمة وذلك الحب الذي يكنه لها كانا بمثابة حقن خدرته وغيبت وعيه ولم يستفق من ذلك الا الآن.
كان يفعل الشيء ذاته كل يوم، ينهض باكرا ويغيب اليوم كله ويعود في وقت متأخر حزينا ..
مضى على حاله عدة أيام، وبعد غروب شمس كل يوم كان يلتمس لها الأعذار: “ربما سافرت، ربما تشتغل في مكان بعيد ولا تعود للبيت الا بعد انصرافي، …” كان يحاول اقناع نفسه بأي شيء حتى يحافظ على شمعة التفاؤل مشتعلة في داخله تبث فيه الدفئ وتنير درب حياته.
بدأ سكان الحي يطلقون عليه الألقاب ويتهمونه بالجنون لكنه لم يعرهم اهتماما ..
ذات مساء كان عائدا الى منزله خائبا شارد الذهن ولاحظ أن الغيوم تكاثفت لتغطي نور القمر الذي كان يأنس به .. وما هي الا لحظات حتى بدأت تمطر بغزارة وكأن السماء تبكي حزنا عليه.
استشعر قلبه فجأة ذلك النور القادم، لم يكن غريبا عليه .. لذلك أخبره أن يرفع بصره وينظر أمامه ليتبين منبعه. انها هي ! هكذا سمع تلك الصرخة في أعماقه التي انفجرت بعدما قُمِعَت طويلا ..
كانت فاطمة ووالدتها تهُمّان بالخروج من بيت أحد الجارات حين لَمَحَهُما، ركض مسرعا نحوها .. فقد الشعور بما يجري حوله فلم يكن يراها سوى هي.
وبينما كانت تلك الجارة تودعهما، رأته قادما وقالت لهما: ذلك هو الشاب المجنون الذي حدثتكما عنه.
نظرت اليه فاطمة فعرفته .. انه أحمد ! لم تعلم أنها تكلمت بصوت مسموع .. لكن أمها سمعتها وابتسمت.
وصل اليها لاهثا، نظر في عينيها محاولا التقاط أنفاسه .. خانته الكلمات، بدا الأمر أن ما يكنه لها في قلبه لم تجُد به اللغة بالكلمات المناسبة لوصفه .. حاول تكسير حاجز الصمت، لكن شعر أن لسانه ثقل واحْتَبَس عن النُّطْق.
فقد الاحساس بالمكان والزمان .. ثم سقط مغشيا عليه.
(يتبع)

قياسي